يؤثر في نشأة الطفل ونموِّه من النواحي الجسمية والعقلية والروحية والخلقية عوامل كثيرة يمكن رجوعها إلى طائفتين:
الطائفة الأولى: عوامل التربية المقصودة: وهي الوسائل التي يقوم بها الكبار من أفراد النوع الإنساني حيال الصغار للتأثير في جسومهم وأرواحهم وعقولهم وأخلاقهم، ولإعدادهم للحياة المستقبلية، وأهم مواطن هذه الطائفة من العوامل: الأسرة والمسجد والمدرسة.
1 ـ الأسرة: كان المنزل في القديم هو الجهاز الوحيد للتربية المقصودة، ومع الترقي وتوزع الاختصاصات في المجتمع بدأت عوامل أخرى تؤثر على الأسرة والمنزل وتقاسمها تربية الأطفال، وعلى الرغم من ذلك فإن المنزل لا يزال عاملاً من أهم عوامل التربية، بل إن كفته ترجح كفة العوامل الأخرى مجتمعة، فهو يؤثر في جميع عوامل التربية الأخرى، و بصلاحه وجهوده الرشيدة تعطي آثارها وتؤتي أكلها، وبفساده وانحرافه تنحرف كلها عن القصد ويجانبها التوفيق، فهو يؤثر في الوراثة والبيئة والتقليد واللعب والمدرسة وغيرها من عوامل التربية.
وللأسرة أو المنزل آثار تربوية ووظائف خطيرة خاصة به، ولا يكاد يشاركه فيها غيره.
أ ـ فهو العامل الوحيد للحضانة والتربية المقصودة في المراحل الأولى للطفولة، ولا يغني عنه أي مؤسسة كدور الحضانة ورياض الأطفال وغير ذلك.
ب ـ وعلى المنزل يقع قسط كبير من واجب التربية الخلقية والدينية والوجدانية في جميع مراحل الطفولة وفي المراحل التالية لها.
جـ ـ ويفضل الحياة في الأسرة والمنزل يتكون لدى الطفل الروح العائلي والعواطف الأسرية المختلفة وتنشأ الاتجاهات الأولى للحياة الاجتماعية المنظمة، وهي تجعل الفرد مزوداً بالعواطف والاتجاهات اللازمة للحياة في المجتمع والبيت.
ولذلك اهتمّ الإسلام اهتماماً بالغاً بالأسرة، منذ تكوينها، بل وقبل تكوينها، حيث أمر الرجل والمرأة بحسن اختيار كل منهما للآخر، ثم بعد تكوين الأسرة نظم العلاقات والحقوق والواجبات بين كل أعضائها من أب وأم وأولاد….الخ
ويبدو الاهتمام بالأسرة وتأثيرها أيضاً في أحاديث النبي – – كقوله: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو يمجّسانه أو ينصّرانه…».
2 ـ المسجد: وهو من أهم عوامل التربية فهو نقطة الإشعاع في المجتمع ـ لأنه يحمل الرسالة الدينية والاجتماعية والخلقية والسياسية والتربوية والتنظيمية…
لهذا كان أول عمل قام به النبي – – بعد الهجرة هو بناء المسجد، ولا بد من عودة لظلال المسجد كي يؤدي دوره في التربية.. ولا تزال الدنيا تذكر بكل فخر واعتزاز الدور الذي قامت به المساجد في تاريخنا؛ كالمسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، والمسجد الأموي، والجامع الأزه، وجامع القرويين، وجامع الزيتونة… وغيرها كثير.
3 ـ المدرسة: ولم تكن المدرسة معروفة منذ القديم بل كان الجامع والمسجد هو المدرسة بالنسبة للمسلمين ـ ثم مع الزمن بدأت نشأة المدارس وأصبحت تنازع البيت والمسجد في التربية؛ إذ فيها يعيش الطفل أو الشاب ساعات من يومه يتلقى فيها العلم ويمر بكثير من التجارب ويخالط الزملاء والمدرسين ويتأثر بهم في نواحٍ كثيرة من سلوكه وحياته وتصرفاته، فللمدرسة تأثير كبير في التربية، وهي تقوم الآن بوظائف تربوية للتأثير في التلاميذ بما يتناسب مع عقيدة الأمة ومبادئها، لأن كل مدرسة تسير في مناهجها ونظما وفق سياسة الدولة التي أنشأتها.
لذلك يجب أن تعنى المدرسة بجميع قوى الطفل وتربيته من جميع نواحيه الجسمية والإدراكية والوجدانية والإرادية، وأن تعنى أيضاً بتقويم سلوكه وأخلاقه وشخصيته وإعداده إعداداً سليماً للحياة المستقبلة من الناحيتين الفردية والاجتماعية؛ وتزوده بما يحتاج إليه من معرفة ومعلومات. ولا تثريب بعد العناية بكل تلك الأمور أن تعنى المدرسة بناحية خاصةٍ، بما يتناسب مع حاجة المجتمع والأمة.
ومن هنا أيضاً تتبين أهمية عمل المعلم، فليست رسالته مقصورة على تلقين المعلومات وحشو أذهان التلاميذ بالحقائق، بل تشمل كذلك تربيتهم وإعدادهم إعداداً صالحاً للحياة المستقبلة من مختلف الوجوه: تشمل العمل على تقوية أجسامهم وإرهاف ملكاتهم الإدراكية؛ وترقية وجدانهم، وتنمية مهاراتهم اليدوية، وتهذيب أخلاقهم، وتعهد غرائزهم، وتعلية ميولهم، وغرس العادات الصالحة في نفوسهم وتنشئتهم على النحو الذي يتفق مع نظم مجتمعهم وحاجاته.
ومن أجل ذلك لا يكفي للمعلم أن يكون متقناً لما يدرِّسه من مواد، بل يجب كذلك أن يكون ملمّاً بأصول علم النفس وقواعد التربية وعلم الاجتماع والأخلاق، للتعرف على تكوين طلابه و نفسياتهم. كما يجب أن يكون قدوة في شخصه وسلوكه ومعاملاته لغيره وأخلاقه العامة وجميع مظاهر حياته. وعلى جميع هذه العوامل يتوقف إتقان عمله ومبلغ نجاحه في رسالته.
الطائفة الثانية: عوامل التربية المقصودة، وهي العوامل التي تؤثر في تربية الأطفال بدون أن يكون للكبار دخل في توجيهها نحو هذه الغاية، وتنقسم إلى أقسام كثيرة أهمها:
أ ـ عوامل طبيعية؛ كالوراثة والبيئة الجغرافية وما إليهما من القوى الطبيعية المؤثرة في النشأة والنمو.
ب ـ الأمور التي يقوم بها الطفل نفسه مدفوعاً إليها بعوامل ميوله الفطرية، وتؤثر في نموه ونشأته، كالألعاب الحرة ومحاكاة الطفل لغيره بدافع التقليد
جـ ـ عوامل اجتماعية كحضارة الأمة ومعتقداتها ونظمها… وفيما يلي نبذة عن كلٍّ من تلك العوامل.
1 ـ الوراثة: حيث ينتقل إلى الكائن الحي عن طريق الوراثة عدةُ صفات، منها ما ينتقل إليه من أصوله الخاصة القريبة أو البعيدة، ومنها ما ينتقل إليه من فصيلته العامة، ومنها ما هو جسمي ومنها ما هو عقلي أو خلقي، منها ما هو صالح ومنها ما هو ضار.
ولذلك وجدنا الإسلام يعنى بحسن اختيار الرجل لزوجه بحيث تكون صاحبة خلق ودين، لأن ذلك يؤثر في أولادها، وكذلك يمنع من الزواج من القريبات قرابة شديدة (المحرَّمات في النكاح)… منعاً لعوامل الضعف والمرض عن طريق الوراثة، وبيّن الرسول الكريم أثر الوراثة بقوله لمن أنكر لون ولده: (لعله نزعة عرق).
2ـ البيئة الجغرافية: وهي تطلق على مجموع ما في البقعة التي يعيش فيها الكائن الحي من قوى طبيعية كامنة في المناخ وجو السماء وعناصر الأرض، وفيما يحيط بهذه البقعة ويكتنفها من جبال وبحار وأنهار وسهول.. الخ.
وهي بهذا من أهم عوامل التربية وأوضحها أثراً في حياة الإنسان من مختلف نواحيه الجسمية والعقلية والخلقية.
3 ـ الألعاب الحرة: وهي طائفة من الحركات الجسمية والنفسية يندفع إليها صغار الناس أو الأطفال تحت تأثير ميل فطري تنشأ الأطفال وقد زودها الله به.
وتتنوع هذه الألعاب وتختلف حسب مراحل الطفولة فتختص كل مرحلة منها بألعاب تختلف عن ألعاب المرحلة الأخرى.
والألعاب بعمومها تؤدي وظيفة مهمة في التربية هي إعداد الطفل للحياة المستقبلة من الناحيتين الجسمية والنفسية، ويتفرع عنها وظائف أخرى كالبعد عن الملل والضجر ونسيان الآلام الفردية وتعديل بعض الغرائز.
لهذا وجدنا الإسلام يبين من الألعاب ما هو نظيف وضروري لهذه الغاية، ويأمر بالرياضة والقوة، كالسباحة والرمي والسباق….
4ـ المحاكاة والتقليد: عند الطفل دافع للتقليد والمحاكاة لمن هو أكبر منه، لأنه يشعر بتفوقه عليه، فهو يقلده مثلاً في الصوت وفي الحركة وفي التصرفات.
ونظراً لميله للتقليد في الحركات، يجب ألا نقسره على حركات معينة قبل نضج جسمه وأعضائه، كما يجب استغلال هذا الميل لتلقينه الفضيلة والأخلاق، لأن من عوامل التقليد عنده هو القوة الحركية للخيالات، وهي عبارة عن الصورة الذهنية التي تتمثل فيها عناصر العمل المقصود.
5 ـ البيئة الاجتماعية العامة: ويقصد بها كل ما عدا المنزل والمدرسة من العوامل الاجتماعية في المجتمع، التي تنظم شتى فروع الحياة الاجتماعية والعلاقات التي تربط بين الأفراد، وكالنظم والنشاط الاقتصادي والسياسي والتأليف والنشر ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، من صحيفة وكتاب ومجلة وإذاعة وتلفزيون… الخ.
ومن ذلك أيضاً الوسط الاجتماعي العام الذي ينشأ فيه الطفل، وأيضاً هناك بيئة اجتماعية تؤثر في الطفل أو الشاب، كدور الكتب والمكتبات والنوادي ومؤسسات الوعظ والإرشاد والجمعيات الخيرية.. وكل هذه العوامل أو عناصر البيئة تؤثر في الطفل أو الشاب بمقدار اتصاله بها…
المصدر: المختار الإسلامي.